فصل: باب ما جاء في قول الله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة} الآية (الزمر: 67).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب ما جاء في قول الله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة} الآية [الزمر: 67].

قوله: {وما قدروا}. الضمير يعود على المشركين، و: {قدروا}: عظموا، أي: ما عظموا، أي: ما عظموا الله حق تعظيمه حيث أشركوا به ما كان من مخلوقاته.
قوله: {والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة}. يحتمل أن تكون الواو للحال، أي: ما قدروا الله حق قدره في هذه الحال.
ويحتمل أن تكون للاستئناف، لبيان عظمة الله عز وجل، وهذا أقوي، لأنه يعم هذه الحال وغيرها.
والقبضة: هي ما يقبض باليد، وليس المراد بها الملك كما قيل، نعم، لو قال: والأرض في قبضته، لكان تفسيرها بالملك محتملًا.
قوله: {جميعًا}. حال من الأرض، فيشمل بحارها وأنهارها وأشجارها وكل ما فيها، الأرض كلها جميعًا قبضته يوم القيامة، والسماوات على عظمها وسعتها مطويات بيمينه، قال الله عز وجل: {يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعبده} [الأنبياء: 104].
قوله: {سبحانه وتعالى}. هذا تنزيه له عن كل نقص وعيب، ومما ينزه عنه هذه الأنداد، ولهذا قال: {وتعالى}، أي: ترفع.
قوله: {عما يشركون}. أي: عن كل شرك يشركونه به، سواء جعلوا الخالق كالمخلوق أو العكس.
عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: «جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله، فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضيين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي حتى بدت نواجذه، تصديقًا لقول الحبر، ثم قرأ: {وما قدر الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة} الآية» متفق عليه.
قوله: (حبر). الحبر هو العالم الكثير العلم، والحبر يشابه البحر في اشتقاق الحروف، ولهذا كان العالم أحيانًا يسمي بالحبر وأحيانًا بالبحر.
قوله: (إنا نجد). أي: في التوراة.
قوله: (فضحك النبي). ولولا ما بعدها لاحتملت أن تكون إنكارًا، لأن من حدثك بحديث لا تطمئن إليه ضحكت منه، لكنه قال: (تصديقًا لقول الحبر)، فكانت إقرارًا لاغير، ويدل لذلك قوله: ثم قرأ: {وما قدروا الله حق قدره} الآية: فهذا يدل على أنه أقره واستشهد لقوله بآية من كتاب الله، فضحكه واستشهاده تقرير لقول الحبر، وسبب الضحك هو سرور، حيث جاء في القرآن ما يصدق ما وجده هذا الحبر في كتبه، لأنه لا شك أنه إذا جاء ما يصدق القرآن، فإن الرسول سوف يسر به، وإن كان الرسول يعلم علم اليقين أن القرآن من عند الله، لكن تضافر البينات مما يقوي الشيء، أرأيت أسامة بن زيد وأبوه زيد بن حارثة؟ هل كان عند النبي شك في أن أسامة ابن لزيد؟
الجواب: ليس عنده في ذلك شك، ولما مر بهما مجزز المدجلي وهو من أهل القيافة وقد تغطيا بقطيفة لم يبد منهما إلا أقدامهما، فنظر إلى أقدامهما، فقال: إن الأقدام بعضها من بعض، فسر النبي سرورًا عظيمًا حتى دخل على عائشة مسرورًا تبرق أسارير وجهه، وقال: «ألم تري أن مجززًا المدجلي دخل فرأي أسامة وزيدًا وعليهما قطيفة، قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض»، فالمهم أن الرسول دخل تبرق أسارير وجهه، لأن في ذلك تأييدًا للحق، وكان المشركون يقدحون في أسامة بن زيد وأبيه لاختلاف ألوانهما، فكان أسامة أسود شديد السواد وأبوه زيد شديد البياض، لكن الأمر ليس كما قالوا، بل هم كاذبون في ذلك، واختلاف اللون لا يوجب شبهة إلا لذي هوي، فلعل المخالف في اللون نزعة عرق.
قوله: (أصبع). واحدة الأصابع، وهي مثلثة الأول والثالث، ففيها تسع لغات، والعاشر أصبوع، وفي هذا يقول الناظم:
وهمز أنملة ثلث وثالثة ** التسع في أصبع واختم بأصبوع

قوله: (أنا الملك). هذه الجملة تفيد الحصر، لأنها اسمية معرفة الجزئين، ففي ذلك اليوم لا ملك لأحد، قال تعالى: {يوم هم بارزون لا يخفي على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16]، وكل الناس الملوك منهم والمملوكون على حد سواء يحشرون حفاة عراة غرلًا، وبهذا يظهر ملكوت الله عز وجل في ذلك اليوم ظهورًا بينًا، لأنه سبحانه ينادي: لمن الملك اليوم، فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه: {لله الواحد القهار}.
وقوله: {الملك}. أي: ذو السلطان، وليس مجرد المتصرف بل هو المتصرف فيما يملك على وجه السلطة والعلو، وأما (المالك) فدون ذلك، ولهذا يمتدح نفسه تعالى بأنه الملك، وقوله تعالى: {مالك يوم الدين} [الفاتحة: 4] فيها قراءتان: {ملك} و: {مالك}، ليتبين بذلك أنه ملك مالك.
فملك الله تعالى متضمن لكمال السلطان والتدبير والملك، بخلاف غيره، فإن من ملوك الدنيا من يكون ملكًا لا يملك التصرف، ومنهم المالك وليس بملك.
قوله: (حتى بدت نواجذه). أي ظهرت، ونواجذ: جمع ناجذ، وهو أقصي الأضراس.
وهذا الضحك من النبي تقرير لقول الحبر، ولهذا قال ابن مسعود: (تصديقًا لقول الحبر)، ولو كان منكرًا ما ضحك الرسول ولا استشهد بالآية، ولقال له: كذبت كما كذب الذين ادعوا أن الذين يزني لا يرجم، ولكنه ضحك تصديقًا لقول الحبر وسرورًا بأن ما ذكره موافق لما جاء به القرآن الذي أوحي إلى محمد.
قوله: ثم قرأ: {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعًا قبضته} الآية.
هذا معنى الآية التي لا تحتمل غيره، وأن السماوات مطويات كطي السجل للكتب بيمينه، أي: يده تبارك وتعالى، لأن ذلك تفسيره، وتفسيره في الدرجة الثانية من حيث الترتيب، لكنه كالقرآن في الدرجة الأولى من حيث القبول والحجة.
وأما تفسير أهل التحريف، فيقول بعضهم: {قبضته}، أي: في قبضته وملكه وتصرفه، وهو خطأ، لأن الملك والتصرف كائن يوم القيامة وقبله.
وقول بعضهم: {السماوات مطويات}، أي: تالفة وهالكة، كما تقول أنطوي ذكر فلان، أي: زال ذكره.
و: {بيمينه}، أى: بقسمه، لأنه قال تعالى: {كل من عليها فان ويبقي وجه ربك} [الرحمن: 26-27] فجعلوا المراد باليمين القسم.. إلى غير ذلك من التحريفات التي يلجأ إليها أهل التحريف، وهذا لظنهم الفاسد بالله، حيث زعموا أن إثبات مثل هذه الصفات يستلزم التمثيل، فصارا ينكرون ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته رسول وسلف الأمة بشبهات يدعونها حججًا.
فيقال لهم: هل أنتم أعلم بالله من الله؟
إن قالوا: نعم، كفروا، وإن قالوا: لا، قلنا هل أنتم أفصح في التعبير عن المعاني من الله؟
إن قالوا: نعم، كفروا، وإن قالوا لا، خصموا، وقلنا لهم: إن الله بين ذلك أبلغ بيان بأن الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة، والرسول أقر الحبر على ما ذكر فيما يطابق الآية: وهل أنتم أنصح من الرسول لعباد الله؟ فسيقولون: لا.
فإذا كان كلامه تعالى أفصح الكلام، وأصدقه، وأبينه، وأعلم بما يقول لزم علينا أن نقول مثل ما قال عن نفسه، ولسنا بمذنبين، بل الذنب على من صرف كلامه عن حقيقه التي أراده الله بها.
* ومن فوائد الحديث:
إثبات الأصابع لله عز وجل لإقراره هذا الحبر على ما قال.
والإصبع إصبع حقيقي يليق بالله عز وجل، كاليد، وليس المراد بقوله: (علي إصبع) سهولة التصرف في السماوات والأرض، كما يقوله أهل التحريف، بل هذا خطأ مخالف لظاهر اللفظ والتقسيم، ولأنه أثبت ذلك بإقراره، ولقوله: «إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن».
وقوله: «بين أصبعين» لا يلزم من البينية المماسة، ألا تري قوله تعالى: {والسحاب المسخر بين السماء والأرض} [البقرة: 164]، والسحاب لا يمس الأرض ولا السماء وهو بينهما، ونقول: عنيزة بين الزلفي والرس، ولا يلزم أن تكون متصلة بهما، وتقول: شعبان بين ذي القعدة وجمادى، ولا يلزم أن تكون متصلة بهما، وتقول: شعبان بين ذي القعدة جمادي، ويلزم أن يكون مواليًا له، فتبين أن البينية لا تستلزم الاتصال في الزمن أو المكان، وكما ثبت عنه: أن الله سبحانه وتعالى يكون قبل وجه المصلي، ولا يلزم من المقابلة أن يكون بينه وبين الجدار أو السترة التي يصلي إليها، فهو قبل وجهه وإن كان على عرشه، ومثال ذلك: الشمس حين تكون في الأفق عند الشروق أو الغروب، فإن من الممكن أن تكون قبل وجهك وهي في العلو.
فتبين بهذا أن هؤلاء المحرفين على ضلال، وأن من قال: إن طريقتهم أعلم وأحكم، فقد ضل.
ومن المشهور عندهم قولهم: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وهذا القول على ما فيه من التناقض قد يوصل إلى الكفر، فهو:
أولًا: فيه تناقض، لأنهم قالوا طريقة السلف أسلم، ولا يعقل أن تكون الطريقة أسلم وغيرها أعلم وأحكم، لأن الأسلم يستلزم أن يكون أعلم وأحكم فلا سلامة إلا بعلم بأسباب السلامة وحكمة في سلوك هذه الأسباب.
ثانيًا: أين العلم والحكمة من التحريف والتعطيل؟
ثالثًا: يلزم منه أن يكون هؤلاء الخالفون أعلم بالله من رسوله وأصحاب، لأن طريقة السلف هي طريقة النبي وأصحابه.
رابعًا: أنها قد تصل الكفر، لأنها تستلزم تجهيل النبي وتسفيهه، فتجهيله ضد العلم، وتسفيهه ضد الحكمة، وهذا خطر عظيم.
فهذه العبارة باطلة حتى وإن أرادوا بها معنى صحيحًا، لأن هؤلاء بحثوا وتعمقوا وخاضوا في أشياء كان السلف لم يتكلموا فيها، فإن خوضهم في هذه الأشياء هو الذين ضرهم وأوصلهم إلى الحيرة والشك، وصدق النبي حين قال: «هلك المتنطعون»، فلو أنهم بقوا على ما كان عليه السلف الصالح ولم يتنطعوا، لما وصلوا إلى هذا الشك والحيرة والتحريف، حتى إن بعض أئمة أهل الكلام كان يتمني أن يموت على عقيدة أمه العجوز التي لا تعرف هذا الضلال، ويقول بعضهم: ها أنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور.
وهذا من شدة ما وجدوا من الشك والقلق والحيرة، ولا تظن أن العقيدة الفاسدة يمكن أن يعيش الإنسان عليها أبدًا، لا يمكن أن يعيش الإنسان إلا على عقيدة سليمة، وإلا ابتلي بالشك والقلق والحيرة، وقد قال بعضهم: أكثر الناس شكًا عند الموت أهل الكلام، وما بالك والعياذ بالله بالشك عند الموت يختم للإنسان بضد الإيمان.
لكن لو أخذنا العقيدة من كتاب الله وسنة رسول الله بسهولة وبما جرى عليه السلف، ونقول كما قال الرازي وهو من علمائهم ورؤسائهم: رأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: أقرأ في الإثبات: {الرحمن على العرش استوس} [طه: 5]، يعني: فأثبت، وأقرأ في النفي: {ليس كمثله شيء} [الشوري: 11] {ولا يحيطون به علمًا} [طه: 110]، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، لأنه أقر هذا الكلام، فقال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تروي غليلًا ولا تشفي عليلًا، ووجدت أقرب الطرق طريق القرآن.
والحاصل أن هؤلاء المنكرين لما جاء في الكتاب والسنة من صفات الله عز وجل اعتمادًا على هذا الظن الفاسد أنها تقتضي التمثيل قد ضلوا ضلالًا مبينًا، فالصحابة رضي الله عنهم هل ناقشوا الرسول في هذا؟ والذي نكاد نشهد به إن لم نشهد به أنه حين يمر عليهم مثل هذا الحديث يقبلونه على حقيقته، لكن يعلمون أن الله لا مثل له، فيجمعون بين الإثبات وبين النفي.
إذا موقفنا من هذا الحديث الذي فيه إثبات الأصابع لله عز وجل أن نقر به ونقبله، وأن لا نقتصر على مجرد إمراره بدون معنى فنكون بمنزلة الأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، بل نقرؤه ونقول: المراد به أصبع حقيقي يجعل الله عليه هذه الأشياء الكبيرة، ولكن لا يجوز أبدًا أن نتخيل بأفهامنا أو أن نقول بألسنتنا: إنه مثل أصابعنا، بل نقول: الله أعلم بكيفية هذه الأصابع، فكما أننا لا نعلم ذاته المقدسة، فكذلك لا نعلم كيفية صفاته، بل نكل علمها إلى الله سبحانه وتعالى.
وفي رواية لمسلم: «والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الله».
وفي رواية للبخاري: «يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع».
قوله: (ثم يهزين). أي: هزًا حقيقيًّا، ليبين للعباد في ذلك الموقف العظيم عظمته وقدرته، وكان الرسول يقرأ هذه الآية ويقبض أصابعه ويبسطها، فصار المنبر يتحرك ويهتز لأنه كان يتكلم بهذا الكلام وقلبه مملوء بتعظيم الله تعالى.
فإن قلت: هل نفعل أيدينا كما فعل النبي؟
فالجواب: إن هذا يختلف بحسب ما يترتب عليه، فليس كل ما شاهد أو سمع يتقبل ذهنه ذلك بغير أن يشعر بالتمثيل، فينبغي أن نكف لأن هذا ليس بواجب حتى نقول: يجب علينا أن نبلغ كما بلغ الرسول بالقول والفعل، أما إذا كنا نتكلم مع طلبة علم أو مع إنسان مكابر ينفي هذا ويريد أن يحول المعنى إلى غير الحقيقة، فحينئذ نفعل كما فعل الرسول.
فلو قال قائل: إن الله سميع بصير، لكن قال: سميع بلا سمع وبصير بلا بصر، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام حين قرأ تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعًا بصيرًا} [النساء: 58] وضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه وأبو هريرة حين حدث به كذلك، فهذا الإنسان الذين يقول: إن الله سميع بلا سمع بصير بلا بصر نقول له هكذا.
وكذلك الذي ينكر حقيقة اليد ويقول: إن الله لا يقبض السماوات بيمينه، ومعنى قبضته، أي: في تصرفه، فهذا نقول له كما فعل الرسول.
فالمقام ليس بالأمر بالسهل، بل هو أمر صعب ودقيق للغاية، فإنه يخشي من أن يقع أحد في محذور كان بإمكانك أن تمسك عنه، وهذا هو فعل الرسول في جميع تصرفاته إذا تأملتها، حتى الأمور العملية قد يؤجلها إذا خاف من فتنة أو من شيء أشد ضررًا، كما أخر بناء الكعبة على قواعد إبراهيم خوفًا من أن يكون فتنة لقريش الذين أسلموا حديثًا.
قوله: «والماء والثرى على إصبع». هذا لا ينافي قوله: «الأرضين على إصبع»، لأنه يقال: «الماء والثرى على إصبع»، أي: الأرض كلها على إصبع، ويراد بالإصبع الجنس، وإلا لتناقض مع معنى الحديث الذي قبله: «الشجر على أصبع والماء على أصبع، والثرى على أصبع»، إذا النكرة كررت بلفظ النكرة، فالثاني غير الأول غالبًا، وإذا كررت بلفظ المعرفة، فالثاني هو الأول غالبًا، وفيقال: الماء والثرى كناية عن الأرض كلها، أو إن الماء والثرى على أصبع وسكت عن الباقي، إما أختصارًا أو أقتصارًا.
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعًا: «يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمني، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أن المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضن السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول أن الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟».
قوله: ولمسلم عن ابن عمر مرفوعًا: «يطوي الله السماوات..». سبق معنى هذا الحديث، وأن المراد بالطي الطي الحقيقي.
قوله: «ثم يقول: أنا الملك». يقول ذلك ثناء علي نفسه سبحانه، وتنبيهًا على عظمته الكاملة وعلي ملكه الكامل، وهو السلطان، فهو مالك ذو سلطان، وهذه الجملة كلا جزأيها معرفة، وإذا كان المبتدأ والخبر كلاهما معرفة، فإن ذلك من طرق الحصر، أي: أنا الذي لي الملكية المطلقة والسلطان التام لا ينازعني فيهما أحد.
قوله: «أين الجبارون؟». الاستفهام للتحدي، فيقول: أين الملوك الذين كانوا في الدنيا لهم السلطة والتجبر والتكبر على عباد الله؟ وفي ذلك الوقت يحشرون أمثال الذر يطأهم الناس بأقدامهم.
قوله: «يطوي الأرضين السبع». أشار الله في القرآن إلى أن الأرضين سبع، ولم يرد العدد صريحًا في القرآن، قال تعالى: {الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن} [الطلاق: 12]، والمماثلة هنا لا تصح إلا في العدد، لأن الكيفية تتعذر المماثلة فيها، وأما السنة، فقد صرحت بعدة أحاديث بأنها سبع.
قوله: «ثم يأخذهن بشماله». كلمة (شمال) اختلف فيها الرواة، فمنهم من أثبتها، ومنهم من أسقطها، وقد حكموا على من أثبتها بالشذوذ، لأنه خالف ثقتين في روايتها عن ابن عمر.
ومنهم من قال: إن ثقة ولكنه قالها من تصرفه.
وأصل هذه التخطئة هو ما ثبت في (صحيح مسلم) أن الرسول قال: «المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين»، وهذا يقتضي أنه ليس هناك يد يمين ويد شمال.
ولكن إذا كانت لفظة (شمال) محفوظة، فهي عندي لا تنافي: «كلتا يديه يمين»، لأن المعنى أن اليد الأخرى ليست كيد الشمال بالنسبة للمخلوق ناقصة عن اليمني، فقال: «كلتا يديه يمين»، أي: ليس فيها نقص، ويؤيد هذا قوله في حديث آدم: «اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين مباركة»، فلما كان الوهم يذهب إلى أن إثبات الشمال، يعني: النقص في هذه اليد دون الأخرى، قال: «كلتا يديه يمين»، ويؤيده أيضًا قوله: «المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن»، فإن المقصود بيان فضلهم ومرتبتهم، وأنهم على يمين الرحمن سبحانه.
وعلى كل، فإن يديه سبحانه اثنتان بلا شك، وكل واحدة غير الأخرى، وإذا وصفنا اليد الأخرى بالشمال، فليس المراد أنها أقل قوة من اليد اليمني، بل كلتا يديه يمين.
والواجب علينا أن نقول: إن ثبتت عن رسول الله، فنحن نؤمن بها، ولا منافاة بينها وبين قوله: «كلتا يديه يمين» كما سبق، وإن لم تثبت، فلن نقول بها.
وروي عن ابن عباس، قال: «ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم».
قوله: «في كف الرحمن» هكذا ساقه المولف، والذي في ابن جرير: «في يد الله». ففيما ساقه المؤف إثبات الكف لله تعالى، إن كان السياق محفوظًا وإلا ففيه إثبات اليد. أما الكف فقد ثبت في أحاديث أخرى صحيحة.
قوله: «إلا كخردلة». هي حبة نبات صغيرة جدًّا، يضرب بها المثل في الصغر والقلة، وهذا يدل على عظمته سبحانه، وأنه سبحانه لا يحيط به شيء، والأمر أعظم من هذا التمثيل التقريبي، لأنه تعالى لا تدركه الأبصار ولا تحيط به الإفهام.
وقال ابن جرير: حدثني يوسف، أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي، قال: قال رسول الله: «ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس».
قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله يقول: «ما الكرسي في العرش إلا العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض».
قوله: (قال ابن جرير). هو المفسر المشهور رحمه الله، وله تفسير أثري يعتمد فيه على الآثار، لكن آفته أنه لم يمحص هذه الآثار، وأتي بالصحيح والضعيف وما دون الضعيف أيضًا، وكأنه رحمه الله أراد أن يقيد هذا وجعل الحكم بالصحة والضعف موكولًا إلى القارئ، وربما كان يريد أن يرجع إليه مرة ثانية، ويمحصه، ولكن لم يتيسر ذلك.
قوله: «ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس». الكرسي: موضع قدمي الله تعالى، هكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما، والدراهم: جمع درهم، وهو النقد من الفضة، والترس: شيء من جلد أو خشب يحمل عند القتال يتقي به السيف والرمح ونحوهما.
قوله: «ما الكرسي في العريش». أي: بالنسبة إليه، والعرش هو المخلوق العظيم الذي استوي عليه الرحمن ولا يقدر قدره إلا الله عز وجل، والمراد بالحلقة حلقة الدرع، وهي صغيرة وليست بشيء بالنسبة إلى فلاة الأرض.
وهذا الحديث يدل على عظمته عز وجل، فيكون مناسبًا لتفسير الآية التي جعلها المؤلف ترجمة للباب.
وعن ابن مسعود، قال: (بين السماء والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام وبين الكرسي والماء خمس مئة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم) أخرجه ابن مهدي.
عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله. ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله. قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى، قال: (وله طرق).
قوله: (وعن ابن مسعود). هذا الحديث على ابن مسود، لكنه من الأشياء التي لا مجال للرأي فيها، فيكون له حكم الرفع، لأن ابن مسعود رضى الله لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات.
قوله: (بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام). وعلى هذا تكون المسافة بين السماء الدنيا والماء أربعة آلاف سنة، وفي حديث آخر: (إن كثف كل سماء خمسمائة عام)، وعلى هذا يكون بين السماء الدنيا والماء سبعة آلاف وخمسمائة، وإن صح الحديث، فمعناه أن علو الله عز وجل بعيدًا جدًّا.
فإن قيل: يرد على هذا ما ذكره المعاصرون اليوم من أن بيننا وبين بعض النجوم والمجرات مسافات عظيمة؟
يقال في الجواب: أنه إذا صحت الأحاديث عن رسول الله، فإنا نضرب بما عارضها عرض الحائط، لكن إذا قدر أننا رأينا الشيء بأعيننا، وأدركنا بأبصارنا وحواسنا، ففي هذه الحال يجب أن نسلك أحد أمرين:
الأول: محاولة الجمع بين النص والواقع إن أمكن الجمع بينهما بأي طريق من طرق الجمع.
الثاني: إن لم يمكن الجمع تبين ضعف الحديث، لأنه لا يمكن للأحاديث الصحيحة أن تخالف شيئًا حسيًّا واقعًا أبدًا، كما قال شيخ الإسلام في كتابه (العقل والنقل): (لا يمكن للدليلين القطعيين أن يتعارضا أبدًا، لأن تعارضها يقتضي إما رفع النقيضين أو جمع النقيضين، وهذا مستحيل، فإن ظن التعارض بينهما، فإما أن لا يكون الخطأ من الفهم، وإما إن يكون أحدهما ظنيًّا والآخر قطعيًّا).
فإذا جاء الأمر الواقع الذي لا إشكال فيه مخالفًا لظاهر شيء من الكتاب أو السنة، فإن ظاهر الكتاب يؤول حتى يكون مطابقًا للواقع، مثال ذلك قوله تعالى: {تبارك الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا وقمر منيرًا} [الفرقان: 61]، وقال تعالى: {وجعل القمر فيهن نورًا} [نوح: 16]، أي: في السماوات.
والآية الثانية أشد إشكالًا من الآية الأولى، لأن الأولى يمكن أن نقول: المراد بالسماء العلو، ولكن الآية الثانية هى المشكلة جدًّا، والمعلوم بالحس المشاهد أن القمر ليس في السماء نفسها، بل هو في فلك بين السماء والأرض.
والجواب أن يقال: إن كان القرآن يدل على أن القمر مرصع في السماء كما يرصع المسمار في الخشبة دلالة قطعية، فإن قولهم: إننا وصلنا القمر ليس صحيحًا، بل وصلوا جرمًا في الجو ظنوه القمر.
لكن القرآن ليس صريحًا في ذلك، وليست دلالته قطعية في أن القمر مرصع في السماء، فآية الفرقان قال الله فيها: {تبارك الذي جعل في السماء بروجًا وجعل فيها سراجًا منيرًا}، فيمكن أن يكون المراد بالسماء العلو، كقول تعالى: {أنزل من السماء ماء} [الرعد:17] والماء ينزل من السحاب المسخر بين السماء والأرض، كما قال الله تعالى: {والسحاب المسخر بين السماء والأرض} [البقرة: 164]، وهذا التأويل للآية قريب.
وأما قوله: {وجعل فيهن نورًا}، فيمكن فيها التأويل أيضًا بأن يقال: المراد لقوله: {فيهن}: في جهتهن، وجهة السماوات العلو، وحينئذ يمكن الجمع بين الآيات والواقع.
قوله: (والله فوق العرش). هذا نص صريح بإثبات علو الله تعالى علوًّا ذاتيًّا وعلو الله ينقسم إلى قسمين:
أ- علو الصفة، وهذا لا ينكره أحد ينتسب للإسلام، والمراد به كمال صفات الله، كما قال تعالى: {للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم} [النحل: 60].
ب- علو الذات، وهذا أنكره بعض المنتسبين للإسلام، فيقولون كل العلو الوارد المضاف إلى الله به علو الصفة، فيقولون في قوله: (والله فوق العرش)، أي: في القوة والسيطرة والسلطان، وليس فوقه بذاته.
ولا شك أن هذا تحريف في النصوص وتعطيل في الصفات.
والذين أنكروا علو الله بذاته انقسموا إلى قسمين:
أ- من قال: إن الله بذاته في كل مكان، وهذا لا شك ضلال مقتض للكفر.
ب- من قال: إنه لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا متصل بالخلق ولا منفصل عن الخلق، وهذا إنكار محض لوجود الله والعياذ بالله، ولهذا قال بعض العلماء: لو قيل لنا: صفوا العدم، ما وجدنا أبلغ من هذا الوصف.
ففروا من شيء دلت عليه النصوص والعقول والفطر إلى شيء تنكره النصوص والعقول والفطر.
قوله: (لا يخفى عليه شيء من أعمالكم). يشمل أعمال القلوب وأعمال الجوارح المرئي منها والمسموع، وذلك لعموم علمه وسعته، وإنما أتى بذلك بعد ذكر علوه ليبين أن علوه لا يمنع علمه بأعمالنا، وهو إشارة واضحة إلى علو ذاته تبارك وتعالى.
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله: «هل تدرون كم بين السماء والأرض؟. قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم». أخرجه أبو دواد وغيره.
قوله: (العباس) يقال: العباس، وعباس، و: (أل) هنا لا تفيد التعريف، لأن عباس معرفة لكونه علمًا، لكنها للمح الأصل، كما يقال: الفضل: لفضله، والعباس لعبوسه على الأعداء، قال ابن مالك:
وبعض الأعلام عليه دخلًا ** للمح ما قد كان عنه نقلًا

قوله: (هل تدرون). (هل): استفهامية يراد بها أمران:
أ- التشويق لما سيذكر.
ب- التنبيه إلى ما سيلقيه عليهم، وهذا كقوله تعالى: {هل أتاك حديث الغاشية} [الغاشية: 1]، هذا تنبيه وتشويق إلى شيء من آيات الله الكونية.
وقوله تعالى: {هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} [الصف: 10].
هذا تنبيه وتشويق على شيء من آيات الله الشرعية وهو الإيمان والعمل الصالح.
وقوله: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا} [الكهف: 103] تنبيه وتحذير.
وقوله:{هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله} [المائدة: 6] تنبيه وتحذير.
واختلاف هذه المعاني بحسب القرائن والسياق، وإلا، فالأصل في الاستفهام أنه طلب العلم بالشيء.
قوله: (كم). استفهامية.
قوله: (قلنا: الله ورسوله أعلم). جاء العطف بالواو، لأن علم الرسول من علم الله، فهو الذي يعلمه بما لا يدركه البشر.
وكذلك في المسائل الشرعية يقال: الله ورسوله أعلم، لأنه أعلم الخلق بشرع الله، وعلمه به من علم الله، وما قاله في الشرع فهو كقول الله وليس هذا كقوله: (ما شاء الله وشئت)، لأن هذا في باب القدر والمشيئة، ولا يمكن أن يجعل الرسول مشاركًا لله في ذلك، بل يقال: ما شاء الله، ثم يعطف بـ: (ثم)، والضابط في ذلك أن الأمور الشرعية يصح فيها العطف بالواو، وأما الكونية، فلا.
ومن هنا نعرف خطأ وجهل من يكتب على بعض الأعمال: {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله} [التوبة: 105] بعد موت الرسول وتعذر رؤيته، فالله يري، ولكن رسوله لا يري، فلا تجوز كتابته لأنه كذب عليه.
قوله: (خمسمائة سنة). الميم الثانية في خمسمائة مكسورة والألف لا ينطق بها.
قوله: (وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض). وذلك خمسمائة سنة.
قوله: (والله تعالى فوق ذلك). هذا دليل على العلو العظيم لله عز وجل، وأنه سبحانه فوق كل شيء ولا يحبط به شيء من مخلوقاته، لا السماوات ولا غيرها، وعليه، فإنه سبحانه لا يوصف بأنه في جهة تحيط به، لأن ما فوق السماوات والعرش عدم، ليس هناك شيء حتى يقال: إن الله أحاط به شيء من مخلوقاته.
ولهذا جاء في بعض كتب أهل الكلام يقولون: لا يجوز أن يوصف الله بأنه في جهة مطلقًا، وينكرون العلو ظنًّا منهم أن إثبات الجهة يستلزم الحصر.
وليس كذلك، لأننا نعلم أن ما فوق العرش عدم لا مخلوقات فيه، ما ثم إلا الله، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته أبدًا.
فالجهة إثباتها لله فيه تفصيل، أما إطلاق لفظها نفيًا وإثباتًا فلا نقول به، لأنه لم يرد أن الله في جهة، ولا أنه ليس في جهة، ولكن نفصل، فنقول: إن الله في جهة العلو، لأن الرسول قال للجارية: «أين الله؟» وأين يستفهم بها عن المكان، فقالت: في السماء. فأثبتت ذلك، فأقرها النبي عليه، وقال: «أعتقها، فإنها مؤمنة».
وأهل التحريف يقولون: (أين) بمعنى (من)، أي: من الله؟ قالت: في السماء، أي: هو من السماء، وينكرون العلو.
وقد رد عليهم ابن القيم رحمه الله في كتبه ومنها (النونية) وقال لهم: اللغة العربية لا تأتي فيها (أين) بمعنى، (من)، وفرق بين (أين) و: (من).
فالجهة لله ليست جهة سفل، وذلك لوجوب العلو له فطرة وعقلًا وسمعًا، وليست جهة علو تحيط به، لأنه تعالى وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو موضع قدميه، فكيف يحيط به تعالى شيء من مخلوقاته؟!
فهو في جهة علو لا تحيط به، ولا يمكن أن يقال: إن شيئًا يحيط به، لأننا نقول: إن ما فوق العرش عدم ليس ثم إلا الله سبحانه، ولهذا قال: (والله تعالى فوق ذلك).
قوله: (وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم). وقوله: (أعمال) إن قرنت بالأقوال صار المراد بها: أعمال الجوارح، والأقوال للسان، وإن أفردت شملت أعمال الجوارح وأقوال اللسان وأعمال القلوب، وهي هنا مفردة، فتشمل كل ما يتعلق باللسان أو القلب أو الجوارح، بل أبلغ من ذلك أنه لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم في المستقبل، فهو يعلم ما يكون فضلًا عما كان، قال تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} [طه: 110]، أي: ما يستقبلونه وما مضي عليهم، ولما قال فرعون لموسى: {فما بال القرون الأولى}، أي: ما شأنها؟ قال: {علمها عند ربي في كتاب}، أي: محفوظة، {لا يضل ربي}: لا يجهل، {ولا ينسى} [طه: 51، 52]: لا يذهل عما مضى سبحانه وتعالى.
والنبي صدر هذا الأمر بهل الدالة على التشويق والتنبيه من أجل أن يثبت عقيدة عظيمة، وهو أنه تعالى فوق كل شيء بذاته، وأنه محيط بكل شيء علمًا، لقوله: (وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم)، فإذا علمنا ذلك، أوجب لنا تعظيمه والحذر من مخالفته، لأنه فوقنا، فهو عال علينا، وأمره محيط بنا.
وفي الحديث صفتان لله: ثبوتية، وهي العلو المستفاد من قوله: (والله فوق ذلك).
وسلبيه المستفاد من قوله: (ليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم)، ولا يوجد في صفات الله عز وجل صفة سلبية محضة، بل صفاته السلبية التي هي النفي متضمنة لثبوت ضدها على وجه الكمال، فينفي عنه الخفاء لكمال علمه، وينفي عنه اللغوب لكمال قوته، وينفي عنه العجز لكمال قدرته، وما أشبه ذلك.
فإذا نفي الله عن نفسه شيئًا من الصفات، فالمراد انتفاء تلك الصفة عنه لكمال ضدها، كما قال تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} [البقرة: 255]، السنة: النعاس، والنوم: الإغفاء العميق، وذلك لكمال حياته وقيوميته، إذ لو كان ناقص الحياة لا حتاج إلى النوم، ولو نام ما كان قيومًا على خلقه، لأنه حين ينام لا يكون هناك من يقوم عليهم ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون لكمال حياتهم، ولأن النوم في الجنة يذهب عليهم وقتًا بلا فرح ولا سرور ولا لذة، لأن السرور فيها دائم، ولأن النوم هو الوفاة الصغرى، والجنة لا موت فيها.
وليس في صفات الله محض، لأن النفي المحض عدم لا ثناء فيه ولا كمال، بل هو لا شيء، ولأن النفي أحيانًا يرد لكون غير قابل له، مثل قولك: الجدار لا يظلم.
وقد يكون نفي الذم ذمًا، كما في قوله:
قبيلة لا يغدرون بذمة ** ولا يظلمون الناس حبة عجزهم وضعفهم.

وقال آخر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ** ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ** ومن إساءة أهل السوء إحسانا

كأن ربك لم يخلق لخشيتيه ** سواهم من جميع الناس إنسانا

فليت لي بهمو قومًا إذا ركبوا ** شنوا لا غارة ركبانًا وفرسانا

فنفي أن يكون يد في الشر، وبين أن ذلك لعجزهم عن الانتصار لأنفسهم، وتمني أن يكون له قوم خير منهم وأقوي.
* فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله تعالى: {والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة}. الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه ولم ينكروها ولم يتأولوها. الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صدقه ونزل القرآن بتقرير ذلك. الرابعة: وقوع الضحك من الرسول لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم. الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السماوات في اليد اليمني والأرضين في الأخرى. السادسة: التصريح بتسميتها الشمال. السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك. الثامنة: قوله: (كخردلة في كف أحدهم). التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء. العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي. الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء. الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء. الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي. الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء. الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء. السادسة عشرة: أن الله فوق العرش. السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض.الثامنة عشرة: كثف كل سماء خمسمائة سنة. التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات بين أسفله وأعلاه خمس مئة سنة، والله أعلم.
فيه مسائل:
* الأولى: تفسير قوله تعالى: {والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة}. وقد تقدم من حديث ابن مسعود، حيث أقر النبي الحبر على أن الله يجعل السماوات على إصبع.. إلخ.
* الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه لم ينكروها ولم يتأولوها. كأنه يقول: إن اليهود خير من أولئك المحرفين لها، لأنهم لم يكذبوها ولم يتأولوها. كأنه يقول: إن اليهود خير من أولئك المحرفين لها، لأنهم لم يكذبوها ولم يتأولوها، وجاء قوم من هذه الأمة، فقالوا: ليس لله أصابع، وإن المراد بها القدرة، فكأنه يقول: اليهود خير منهم في هذا وأعرف بالله.
* الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك. ظاهر كلام المؤلف بقوله: (ونزل القرآن) أنه بعد كلام الحبر، وليس كذلك، لأنه في حديث ابن مسعود قال: ثم قرأ قوله: {وما قدروا الله حق قدره}، وهذا يدل على أن الآية نزلت من قبل، لكن مراد المؤلف أن القرآن قد نزل بتقرير ذلك.
* الرابعة: وقوع الضحك من الرسول لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم. ففيه دليل على جواز الضحك في تقرير الأشياء، لأن الضحك يدل على الرضا وعدم الكراهة.
* الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السماوات في اليد اليمني والأرضين في الأخرى. وقد ثبتت اليدان لله تعالى بالكتاب والسنة وإجماع السلف.
وقوله: (في الأخرى) لا يعني أنه ينفي ذكر الشمال لما ذكره في المسألة التالية، وهي:
* السادسة: التصريح بتسميتها الشمال. وقد سبق الكلام على ذلك.
* السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك. ووجه ذكرهم أنه إذا كان لهم تجبر وتكبر الآن، فليقوموا بذلك.
* الثامنة: قوله: (كخردلة في كف أحدهم). يعني بذلك قوله في الحديث: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في كف أحدهم)، هكذا قال المؤلف رحمه الله: (في كف أحدكم) وقد ساق الأثر بقوله: (كخردلة في يد أحدكم)، وانظر (ص 376) وكلامنا على الأثر هناك.
* التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء. حيث ذكر أنها بالنسبة للكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس.
* العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي. لأنه جعل الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض بالنسبة للعرش.
* الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء. ولم أر من قال: إن العرش هو الماء، لكن هناك من قال: إن العرش هو الكرسي، لحديث: «إن الله يضع كرسيه يوم القيامة»، وظنوا أن هذا الكرسي هو العرش.
وكذلك زعم بعض الناس أن الكرسي هو العلم، فقالوا في قوله تعالى: {وسع كرسيه السماوات والأرض}، أي: علمه.
والصواب: أن الكرسي موضع القدمين، والعرش هو الذين استوي عليه الرحمن سبحانه، والعلم صفة في العلم صفة في العالم يدرك بها المعلوم.
* الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء. وهو خمسمائة عام.
* الثالثة عشرة: كم بين السماء والكرسي. وهو خمسمائة عام.
* الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء. وهو خمسمائة عام.
* الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء. وهي ظاهرة.
* السادسة عشرة: أن الله فوق العرش. وهي ظاهرة.
* السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض. وهو خمسمائة عام.
* الثامنة عشرة: كثف كل سماء خمسمائة سنة.
* التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات بين أسفله وأعلاه خمسمائة سنة. وقد سبق الكلام على جميع هذه المسائل بأدلتها.
ويستفاد من أحاديث الباب:
1. أن الله لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم.
2. التحذير من مخالفة الله عز وجل.
والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلي الله وسلم على نبينا محمد، وأسال الله أن يختم لنا ولكم بالتوحيد، آمين.